مسقط في 20 فبراير/أ ش أ/ محمد المعبدي
على بعد ساعتين من ولاية خصب التابعة لمحافظة مسندم العُمانية وفي الجزء الشمالي من السلطنة يحتضن الجبل قرية "كمزار" العمانية ذات التضاريس الوعرة والمطلة على أحد أهم الممرات المائية في العالم، وهو مضيق هرمز، حيث يعبر من خلاله حوالي 40 % من النفط العالمي.
وبالرغم من ظهور القرية كبقعة صغيرة محاطة بجبال وعرة وشاهقة وصخرية وشواطىء وتبدو في "حالة عزلة"؛ إلا أن هذا الموقع وهذه العزلة أكسبها طابعا فريدا؛ وجعلها تشتهر بكونها أشهر المقاصد السياحية العُمانية التي يقصدها السياح من مختلف أنحاء العالم للاستمتاع بطبيعتها الساحرة، ويجدون فيها بسبب طبيعتها وبعدها عن الضوضاء، حيث يلتقي فيها الجبل بالساحل، وتجمع بين صفاء المياه الزرقاء، والجبال الصلبة الشامخة؛ رقة البيئة الساحلية وصلابة البيئة الجبلية.
والطريق الوحيد للوصول إلى قرية كمزار عن طريق الإبحار بالمراكب أو القوارب السريعة، حيث يمكن استقلال القوارب السريعة التي تنطلق من مدينة خصب أقرب مدن عمان للقرية وهي الرحلة التي تستهلك نحو الساعة من الزمان للوصول، أو الصعود على متن إحدى السفن الشراعية التقليدية المعروفة محليًا باسم الـ "داو"، والتي تنطلق من خصب أيضًا، ولكنها تستغرق للوصول حوالي ساعتين ونصف.
ويتميز أهالي كمزار بكرم الضيافة والترحاب الشديد فبمجرد أن يأتي أي زائر يتم تقديم المأكولات والمشروبات له، حتى يشعر أنه بات واحدا منهم، وهذه الطباع لا تبدوا غريبة على أهالي القرية فالموقع الفريد لكمزار جعل الأهالي على مر التاريخ يستقبلون ويوفرون الرعاية بانتظام للبحارة الناجين من السفن التي تتحطم في مضيق هرمز، ويخفون كذلك السفن الفارة من القراصنة في الخلجان البحرية الصغيرة الموجودة في المنطقة، أو يساعدون السفن المارة على إعادة التزود بالمياه العذبة، "بفضل مياه البئر الموجود في القرية" وهي "بئر كمزار".
ويبدو أن كمزار كانت مهمة للغاية من الوجهة التاريخية، فقد شكلت إحدى البقاع القليلة، التي يوجد بين جنباتها بئر تحتوي على مياه عذبة بكميات كبيرة، في المنطقة الواقعة بين مراكز تجارية مثل البصرة ومسقط وزنزبار والهند وما وراءها.
وبئر كمزار هي البئر الوحيدة في القرية، ومصدر الحياة فيها قديما وسر ازدهارها وحيويتها، وكان الأهالي والزوار الذين يردون على البئر يستخدمون الحبال والدلاء لاستخراج المياه وهى ما تركت باستخدامها على مر السنين آثارا وشقوقا على تلك الصخور الصلبة الصماء على أطراف البئر.
وبسبب وقوع مضيق هرمز ومن ثم إيران، خلف خليج كمزار، اكتسب أهالي كمزار مزيجا من التأثيرات القادمة من هذا المضيق، وتجسد ذلك على نحو لافت للنظر بشدة، في اللهجة الكمزارية السائدة في القرية ويتمسك بها الأهالي ويرفضون التحدث إلا بها، والتي تختلف عن أي لغة أخرى سواها، فهي مزيج من عدة لغات أجنبية بينها العربية والفارسية والهندية والبرتغالية والإنجليزية.
ويعود هذا إلى القرون الماضية عندما كانت المنطقة ملتقى لتجار وبحارة من مختلف الثقافات، وهذا التماذج هو ما يعكس دور كمزار على مدى قرون من الزمن في استقبال العابرين من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق ليستقروا فيها مؤقتا ويغادروها تاركين بعضا من مصطلحاتهم اللغوية التي استقبلها السكان وكوّنوا منها لهجة خاصة بهم لا يتحدثها غيرهم.
ويقول عادل الكمزاري وهو من أهالي القرية لوكالة أنباء الشرق الأوسط، "اللغة الكمزارية هي لغتنا التي تربينا عليها فنحن توارثناها عن أجدادنا، وجميع أهالي القرية يتحدثون بها رغم أنهم يتقونون اللغة العربية أيضا".
وأضاف عادل الكمزاري، "تبدو الكثير من مفردات اللغة الكمزارية مألوفة للناطقين بالإنجليزية وفي الوقت نفسه، تُنطق الكثير من المفردات التي أخذتها الكمزارية من العربية والفارسية، على نحو أقرب لما كانت عليه كلمات هاتيْن اللغتيْن في العصور الوسطى، لا العصر الحديث".
ويبلغ عدد منازل القرية حوالي 300 منزل متقابلة على جانبي الوادي الذي ينحدر من الجبل متجها ناحية البحر برأس مسندم، على نحو لا يسمح بالتوسع الأفقى مرة أخرى، فلا يكاد تكون فيه شوارع في القرية فالبيوت بدائية جدا وطبيعتها غير مناسبة والمسافة بين المنزل والذي يقابله تكاد تكون نصف متر أو متر على الأكثر.
ويوجد في القرية عدد من الخدمات وبها مدرسة يذهب إليها الطلاب الذكور في الصباح والفتيات في المساء، وأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، برغم أن الأهالي يتحدثون "الكمزارية" وهناك حاليا مشروع متكامل لقرية كمزار الجديدة.
وأغلب سكان القرية يعتمدون على الصيد البحري كحرفة أساسية لهم ولا تزال تمثل مصدر الرزق الأساسي لهم، حيث يعمل بهذه الحرفة حوالي 90 % من أهالي القرية، حتى أن الأطفال الصغار يصطادون الأسماك ويبعون بضعها .
ومن ضمن خصائص أهالي كمزار أن معظمهم يغادر القرية في شهر يونيو متوجهين إلى بيوتهم الأخرى في مدينة خصب لقضاء وقت الصيف هربا من الأجواء الحارة، حيث تتجاوز درجات الحرارة الـ 40 مع ارتفاع كبير في نسب الرطوبة بسبب اجتماع البحر والجبل، ثم يعودون إلى القرية عندما تفتح المدارس أبوابها في سبتمبر.
ويتمسك الأهالي بالعادات، والتقاليد العربية الأصيلة ،وهي نفسها عادات جدودهم ،وآبائهم، وحياتهم بسيطة والحياة اليومية في كمزار تسير بوتيرة هادئة وبطيئة، إلا أنها تحمل قدراً كبيراً من التواصل الاجتماعي والعلاقات القوية بين أفراد المجتمع.
وتُعد كمزار من القرى التي تحافظ على التراث العُماني بملامحه الأصلية، فالأزياء التقليدية، والأغاني الشعبية، والاحتفالات الموسمية تُعبر عن عراقة وتاريخ سكانها، ورغم صعوبة الوصول إليها، فإن بعض المهتمين بالتاريخ والثقافة يزورونها لاستكشاف الحياة التقليدية، والتعرف على ممارسات الأجداد، مما يساعد على إبقاء كمزار حية في الذاكرة الثقافية العُمانية.
وعلى الرغم من أن كمزار قرية بسيطة وعدد سكانها قليل؛ إلا أنها تضم نخبة من الشيوخ العرب أصحاب العلم الوفير أبرزهم الشيخ عبد الواحد الزرافي ،و الشيخ محمد بن صالح المنتفقي.
وفيما يتعلق بتسمية كمزار بهذا الاسم، اختلفت الآراء حول تسمية القرية بهذا الاسم ،ولكن هناك رأيان شائعان، الأول للمسعودي .. الذي أشار في كتابه "مروج الذهب" حول تفصيل الاسم كم زار هذه البلد من بشر..؟ ، وأوضح أنه بطرح هذا السؤال البسيط ستجد نفسك أمام المعني الأقرب لاسم البلد، والرأي الثاني لياقوت الحموي، حيث عرفها في معجم البلدان بأن كلمة كمزار والتي تتكون من الحروف التالية بالضم ثم السكون وزاي بعد ثم بعد الألف راء تُعرف بأنها البليدة الصغيرة التابعة للنواحي العُمانية الكائنة على سواحل البحر بوادي يقع بين جبلين.
ومما لاحظناه أثناء زيارتنا إلى القرية أن الأحياء يتجاورون مع الموتى بطريقة ملفتة في كمزار، وتنتشر شواهد القبور في الشوارع الضيقة.
ويتقبل السكان العيش في هذه الظروف بوصفها جزء من حياتهم، حيث يقول أحدهم: "اعتدنا على وجود هذا الكم الكبير من القبور، فنساؤنا وأطفالنا يخرجون للمشي ليلا دون الشعور بالخوف".

م س د/ م ع ى/ن و ر
أ ش أ