مسندم في 21 فبراير/أ ش أ/ محمد المعبدي
بإطلالتها الخلابة على بحر عمان وتحت سطح الجبال تقبع نيابة ليما التي تشكل مركزا تاريخيا وحضاريا بارزا في محافظة مسندم بسلطنة عمان منذ القدم.
وتؤرخ تلك الجبال الشاهقة ماضيا عريقا وحضارة عمانية أصيلة حيث الحاضر الممزوج بعراقة الماضي التليد، ففي كل يوم تسدل الشمس خيوطها لتبدد ضباب الصباح وتزين سواحل القرية بمنظر الشروق، والجبال تلفها من من الجهات الثلاث كسوار ذهبي والهواء المنقى بنسيمي البر والبحر، ما يخلق حالة فريدة لهذه القرية تنعكس على أهلها الذين يتميزون بالترحاب والكرم والمناظر الطبيعية الخلابة.
و"ليما" هو الاسم المنبثق من «اللم» وجمع الشمل، حيث إنها جمعت بين جبالها أبناء قبيلة عمانية عريقة منذ الأزل، وفي هذه القرية تبدو البيوت المكونة من طابق واحد أو طابقين على الأكثر بجوار بعضها البعض مكونة شكلا جماليا فريدا تتجلى عليه فنون العمارة، ويعكس هذا الزخم التاريخي والحضاري لأهالي القرية منذ عدة قرون.
ويستقبل أهالي القرية الزائر بكل كرم وترحاب فلا يشعر الزائر بالغربة نظرا لطيبة وكرم وسخاء أهلها من البحر إلى الجبل الذين يزيد يصل عددهم إلى نحو 2800 نسمة، حيث يعيش العماني في نيابة ليما منذ الأزل معتمدا على البحر وخيراته التي لا تنضب بالإضافة إلى الزراعة ورعي الأغنام، فالمواطن هناك صياد يمخر عباب الخليج باحثا عن رزقه بالصيد والتجارة.
والزائر لنيابة ليما يجد القارب أو الزورق أو البتيل كحبات لؤلؤ تزين ميناءها البحري الحديث، فمن المناظر المألوفة أن تجد الصياد بشباك صيده محافظا على تراث ومهنة آبائه مازجا إياها بالحداثة.
وعند دخولك الميناء تجذبك المنازل القديمة المهجورة وكثافتها والممتدة في الجبل على يسار الميناء لتصلك بليما القديمة (القنايف) وعلاقتها الوثيقة بالماضي، والمواطن في ليما مزارع يحرث الأرض ليقتات من خيراتها، فنجد النخلة تمتد باسقة ظلها ومادة جذورها عبر التاريخ لتروي قصة عريقة خالدة بينها وبين الإنسان.
وحين تصعد إلى أعالي الجبال تجد الإنسان يحصد القمح ويرعى الغنم ويشرب حليبها ويأكل من أجبانها ولحومها ويستفيد من جلودها، واعتاد الإنسان في النيابة على قسوة الطبيعة المتمثلة في البحر والجبل ، حيث قام بتكييف نفسه ليتماشى مع الطبيعة البحرية والجبلية مما أثر في قاطن تلك النيابة لتجد التحدي وركوب الصعاب سمة يتحلى بها ابن النيابة ، حيث المواصلات تقتصر على ركوب البحر والتحليق جوا إلا أن الزائر للنيابة لا يجد فرقا بينهما وبين سائر ولايات المحافظة في التحضر والحداثة.
ويوجد في القرية مركز صحي والشوارع معبدة رغم قلة سبل المواصلات هذا بالإضافة إلى مدرستي حمزة بن عبد المطلب للتعليم الأساسي ومدرسة ليما للتعليم الأساسي كمنارتي علم تقومان بصقل الطفل وتربية الأجيال، كما تجد من أبناء النيابة الشاب والشابة في الجامعات والكليات داخل السلطنة وخارجها لينهل كل منهما من ينابيع العلم والمعرفة فتجد الطبيب والمهندس والطيار والمعلم وحامل الماجستير والدكتوراه من أبنائها يساهمون مساهمة فاعلة في خدمة الوطن ويتقلدون أعلى المناصب.
ولتوفير كل مقومات الراحة والعيش الكريم للأهالي وفي ظل اهتمام الحكومة بهم يتم تسيير رحلات جوية بشكل يومي تقريبا لربط النيابة بولاية خصب، بالإضافة إلى تسيير رحلتين لربط النيابة بولاية دبا وتسهيل المواصلات للموظفين من خارج النيابة الذين تم تعيينهم فيها، وقامت الشركة العمانية للعبارات بتسيير رحلات من وإلى النيابة لخدمة السياح وأبناء النيابة، بالإضافة إلى شارع الروضة ليما والذي لا يزال في طور الإنشاء ومن المتوقع أن يقوم بحل كل المعوقات المتعلقة بالمواصلات في النيابة، حيث إن صعوبة التضاريس تعتبر من العوائق الكبيرة التي حالت دون الوصول إلى النيابة.
ويربط ليما بولاية خصب طريقا ترابيا يستغرق ساعتين من الزمن وهو الأمر الذي دفع السلطات العمانية إلى شق طريق جديد يربط بين ليما بخصب ويستغرق نص ساعة فقط.
ويبدأ الطريق من ولاية خصب مرورًا بنيابة ليما وصولًا إلى ولاية دبا، ويقوم فريق عمل المشروع بتنفيذه من عدة اتجاهات لتسريع وتيرة التنفيذ، حيث تم إنشاء معسكرات عمل في كل من ولاية خصب ودبا ونيابة ليما، ويمر الطريق بسلسلة جبلية شديدة التضاريس والوعورة، وللتغلب على هذا التحدي تتم الاستعانة بالشركات المختصة بأعمال تفجير الصخور والمعدات الميكانيكية، كما تتم أعمال التسوية الأرضية لمسار الطريق، بالإضافة إلى تنفيذ القطعيات الجانبية تمهيدًا لأعمال الحمايات الجانبية للمسار، وهذا المشروع من المشروعات الإستراتيجية التي تشرف عليها وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات.
وقال الشيخ قيس بن سالم المدحاني نائب والي خصب بنيابة ليما لموفد وكالة أنباء الشرق الأوسط إلى سلطنة عمان إن:" جهود الحكومة واضحة في النيابة، وهناك اهتمام ملموس في كافة القطاعات الحيوية بما فيها التعليم والمياه والكهرباء والإتصالات والزراعة والصحة وغيرها من المؤسسات المهمة التي تشكِّل أهمية كبيرة واستثنائية لدى المواطنين، أضف إلى ذلك ميناء الصيد الذي بات يُشكِّل محطة مهمة لرفد النيابة بالمستلزمات الحيوية وكذلك للعبَّارات التي تنقل المسافرين والمؤن من النيابة وإليها، وبشكل دوري وجدول محدد".
وأكد الشيخ قيس، أهمية الطريق الذي يربط ولاية خصب بولاية دبا مرورًا بنيابة ليما اقتصاديًا واجتماعيًا من خلال التسهيلات التي سيوفرها لأبناء المحافظة واختصاره للجهد والوقت، خاصة لأهالي نيابة ليما، موضحا أن هذا الطريق سيعزز التواصل والتجارة بين مختلف الولايات، كما سيسهم في تحسين الاقتصاد المحلي وزيادة الفرص الوظيفية والتجارية، وسيوفر وسيلة سريعة وآمنة للتنقل من ولاية إلى أخرى والحصول على كافة الخدمات؛ مما يسهم في تحسين جودة الحياة للسكان.
وتعتبر نيابة ليما من المناطق السياحية الجميلة جدا بالإضافة إلى كونها أرض خصبة للحرف التقليدية العمانية حيث تشتهر نيابة ليما بالعديد من الحرف والصناعات التقليدية التي لا زالت تحظى بالاهتمام والدعم سواء من متقنيها الذين رفضوا التخلي عنها في زخم الصناعات الحديثة أو من حكومة السلطنة التي توليها ومثيلاتها في مختلف أرجاء السلطنة اهتماما بالغا باعتبارها إرثا حضاريا يعكس تاريخ المنطقة.
ومن أنواع الحرف الموجودة في نيابة ليما وما زالت صناعة الجرز والسكين والدارج محليا باسم «البيشك» وصناعة الطبول والفخاريات وصناعة الحبال التقليدية إضافة إلى صناعة الشباك البحرية وصناعة القراقير والحابول وصناعة الدعون.
وصناعة الفخار ترعرعت في موطنها الأم لتنجب المبخر والدلة وغيرها من الأواني الفخارية المستخدمة كأدوات استهلاكية في الماضي وكأدوات للزينة في وقتنا الحالي، هذا بالإضافة إلى صناعة الجرز والبيشك كرمز لقبيلة عريقة تقطن النيابة، كما إن الصناعات الجلدية كالمحازم بالإضافة إلى القربة والسعن وهي أدوات تستخدم لنقل الماء ومزج الحليب تمهيدا لاستخراج مشتقاته، حيث تشهد اهتماما من حرفيي النيابة، ومما لا شك فيه أن نيابة ليما تعد من النيابات المنتجة للحرفيات التقليدية.
"صناعة الجرز"
تعد صناعة عصا "الجرز" من أكثر المهن التي يشتهر بها أبناء ليما وتتكون عصا الجرز من جزأين أساسيين هما عصى خشبية وفأس معدني حيث تتكون العصى من خشبة مستقيمة بطول متر واحد في الغالب ويتم اقتطاعها من الأشجار المتوفرة في البيئة المحلية مثل أشجار “السدر” و”العتم” و”المزي” و”الشرحم” و”الشحش” وتمتاز تلك الأشجار بصلابة أغصانها التي تتناسب لعصا الجرز، حسبما قال عبدالله سعيد على حريز الشحي أحد أبناء ليما والذي توارث هذه الصناعة عن والده.
وأضاف عبدالله" يقوم الصانع باختيار الغصن المستقيم والطول المناسب ويتركه ليجف ويزداد صلابة بعيدًا عن أشعة الشمس خلال شهر إلى 6 أشهر بعد قطعه وتتم إزالة النتوء البسيطة واللحاف وسنفرته ليصبح مستقيما وملسا بعدها يتم عمل نقوش هندسية بمحيطه ليصبح تحفة فنية جميلة وثم يتم دهنه بالزيت ليكسبه بريقًا لامعًا ويحافظ على ملمسه ومنقوشاته، وتُعرف هذه المنقوشات المرتبطة بالطبيعة من مثلثات ودوائر بـ”الشمسات".
وتابع " يُعد الفأس المعدني الجزء المهم المكون للجرز ويصنع من الفضة في الغالب أو النحاس أو الحديد الصلب ويتم تشكيله بصهر المعدن بأحجام مختلفة بمتوسط طول 7 سم يكون بشفرة عريضة شبه حادة من جانب واحد مثقوب قبل نهاية الجانب الآخر بقطر العصى لإدخال طرف العصا به وتثبيتها به، كما تتم زخرفة الفأس بنقوش محفورة جميلة تعكس براعة الصانع وفن الإبداع العماني ويحدد سعر الجرز بمنقوشاته ونوع العصا والفأس".
وقال "يتم تركيب حلقات معدنية بأطراف العصا لحمايتها من التشقق وتثبيت الفأس المعدنية بالعصا بالشكل المطلوب مع وضع النقوش المحفورة عليها وإعطائها تناسقًا وشكلًا جميلًا".
يُذكر أن عصا الجرز لها رمزية بتراث وتاريخ المحافظة ولها هندام وزي تقليدي عماني يحرص الآباء على تعليم أبنائهم حملها كونها جزءًا من شخصياتهم وزيّهم في حضور المناسبات الاجتماعية والوطنية إلى جانب الخنجر العماني.
"صناعة الفخار"
من أبرز الصناعات الحرفية التي تشتهر بها ليما صناعة الفخار أو المبخر أو ما يسمى محليا بــ"الميمر".
وقال سليمان بن محمد الشحي من سكان نيابة ليما: يتميز صانعو فخار ليما باستخدام الدولاب اليدوي وهو عبارة عن أداة بسيطة تتألف من قاعدة ثقيلة مصنوعة من الطين المحروق وعمود مركزي ورأس دولاب مصنوع من خشب السدر أو الطين المحروق، ويستخدم الصانع أدوات خشبية لتدوير المصنوعات وصقلها وزخرفتها واستخدام أكسيد الحديد الأحمر لإضفاء زخارف إضافية للقطعة المصنوعة، ويتم بعد ذلك حرق المواد المنتجة في تجويف مفتوح باستخدام أخشاب النخيل المحلية لمدة لا تدوم أكثر من نصف ساعة".
وأوضح الشحي أن صناعة الفخار تمر بعدة مراحل وهي إحضار الطين، ويكون بعدة أنواع إما أبيض أو أحمر أو أخضر وتنقية الطين من أي شوائب عالقة به، ويتم مزج الطين بالماء بأدوات خاصة بالخلط السريع، ثم يتم تجفيف الطين من خلال أنابيب متصلة بأحواض تحت الأرض، ثم يصبح عجينة سهلة التشكيل، وتوضع العجينة في أحواض ليتم عجنها جيداً بأدوات مخصصة لذلك، ويتم أخذ كمية مناسبة من الطين اللين والمجهز للتصنيع لتوضع في دواليب حديثة مخصصة لتشكيله، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة تجفيف الأواني التي تم تشكيلها، ويتم حرق الأواني في أفران كبيرة مخصصة لهذا الغرض تصل درجة حرارتها لأكثر من 1000 درجة مئوية، ثم يتم إخراج الأواني من الفرن بعد التأكد من انخفاض درجة حرارته إلى أقل من 50 درجة مئوية، ثم تأتي مرحلة الزخرفة والتلوين، بعدها يتم إدخال المنتجات لفرن آخر مخصص لتجفيف الألوان، وبعدها تصبح الأواني جاهزة للعرض والبيع.
"صناعة الطبول"
تشتهر نيابة ليما بصناعة الطبول وهي المهنة التي توارثها أبناء ليما عن أجداهم ويحرصون عليها لضمان استمرارها وحمايتها من الإندثار لأنها أحد الرموز المعبرة عن الحياة الاجتماعية العمانية في شتى المناسبات.
وقال سعيد بن علي بن حريز، أحد أبناء ليما والمشهور بصناعة الطبول "هناك تفاصيل عديدة في صناعة الطبول وتمييز جلودها وخشبها، بدءا من اختيار نوع الجلد مرورا بمرحلة تنظيفه وانتهاء بتحديد موقعه في الطبل، بهدف الحصول على نغمة خاصة للفن التقليدي".
وأضاف " تتعدد أنواع الأخشاب التي تستخدم في صناعة الطبول ومنها خشب الجوز وخشب السدر والقرم والشريش، ومهنة صناعة الطبول متوارثة منذ القدم وقد حافظنا على هذه الحرفة. نحن ننتج العديد من الطبول التي تستخدم في الفنون بأنواعها المختلفة، بالإضافة إلى آلات العزف كالمزمار والطمبورة".
وتابع "الحرفة ليست سهلة لأنها تعتمد على الصناعة اليدوية من بدايتها وحتى نهايتها ، وتتطلب الدقة والصبر والكثير من الخبرة ".
وقال "لصناعة أجود أنواع الطبول يتم تفريغ جذع الخشب بشكل متساو حتى النهاية وهذا عمل شاق يحتاج إلى أيام طويلة ، وعندما ينتهي تفريغه تأتي مرحلة وضع الجلد عليه، وتستخدم لذلك جلود الأغنام والأبقار، ويتم تثبيت الجلد على الخشب بواسطة مخارز بعد تنظيفه من الشعر".
"فن الندبة"
يعتبر فن الندبة أحد أبرز الفنون التراثية في سلطنة عمان عموما، وخاصة ليما وتشتهر به العديد من القبائل وهو تقليد قديم متعدد الاستخدامات، ورغم التطور التكنولوجي الهائل الذي أطاح بمئات من ألوان الفن المتوارثة إلا أن الندبة استطاعت أن تقاوم وتصمد حتى اليوم، لتفرض نفسها كواحدة من أشهر الفنون في السلطنة في القرن الحادي والعشرين.
والندبة هي نوع من الفن على فرقة مكونة من قائد ويطق عليه "النديب" نسبة إلى اسم الفن ذاته، وفي الغالب يكون كبير السن أو أحد أعيان القبيلة، ومجموعة من المرددين خلفه ويسموا بـ "الكبكوب" لا يزيدون عن خمسة أفراد على الأكثر، مع إمكانية تكوين أكثر من كبكوب في الفرقة ذاتها.
و"النديب" أو قائد الفرقة يقف بين أعضاءها ويشرع في إطلاق صيحات متتابعة تشبه عواء الذئب، وفي الوقت ذاته يقوم برفع ذراعه الأيمن حتى يحاذي جبهته، ويبقيها معلقة، ثم يطلق متوالية من كلمات لا يمكن فك شفرتها تبدو مثل صيحات متتالية، ويشهد الصوت صعوداً تدريجياً وهبوطاً موازياً في نبرته.
وتعددت استخدامات الندبة في التاريخ العماني، إذ بدأت في بداية الأمر كطريقة للتحذير من هجوم القبائل المجاورة في الزمن القديم ويردد الرجال وراءه بأصوات مماثلة، وإن كانت أقل ارتفاعا، دون أن تصاحب تلك الأصوات كلمات أو تعابير لغوية تذكر، إذ يكاد يعتمد على الصوت ودلالاته، باستثناء كلمتين فقط، يرددهما ثلاث مرات تشيران إلى اسم القبيلة واعتزازها بنفسها.
وتعددت استخدامات الندبة في التاريخ العماني، إذ بدأت في بداية الأمر كطريقة للتحذير من هجوم القبائل المجاورة في الزمن القديم، حين شهدت المنطقة صراعات بين القبائل، أو دعوة للقتال، ثم بمرور الوقت تحولت إلى تقليد يقوم به الضيف تعبيرا عن شكره لكرم مضيفيه، ولاحقا تحولت الندبة إلى تقليد يمارس في الأعراس وحفلات الزفاف، هذا بخلاف استخدامه في الاحتفالات السلطانية والترحيب بقدوم وزيارات سلطان عمان.
م س د/ن و ر
أ ش أ
"نيابة ليما" بسلطنة عمان.. مركز تاريخي وحضاري .. والندبة أبرز معالمها
سلطنة عمان/تقرير/منوعات
You have unlimited quota for this service