وجده ( المغرب) في 2 أبريل/ أ ش أ/ كتب: أحمد البهنسي/ منتدى الشرق الأوسط للحوار
بين التراث والتاريخ والجغرافيا، و بين الأصالة والمعاصرة تكتمل اللوحة المطرزة بكل ألوان الجمال والإبداع والإشراق. وبين مزيج الثقافات وخليط الحضارات تنتظم نغمات معزوفة حضارية هُوياتية، لتتجسد في النهاية سيمفونية مغربية عربية (إسلامية) أفريقية (أمازيغية) أوروبية (غربية) تحمل اسم "وجده المغربية".
فبمجرد زيارة مدينة وجده المغربية تلحظ وللوهلة الأولى ما تجمعه من ألوان الجمال والابداع والتحضر والثقافة؛ إذ تبدو بمفكريها ومثقفيها وناسها، وبوداعتها وهدوئها وعمرانها وآثارها وبنياتاها وساحاتها وأبوابها العريقة وحدائقها، تبدو كما لو كانت "عقد نيزك" رُصِّعت حوله منارات مضيئة من سحر الطبيعة وجمال الصحراء وبهاء الخضرة والزروع.
عبقرية الموقع:
بين سهول أفريقيا وبالقرب من البحر المتوسط وفي موقع متميز من المغرب الشرقي، تجمع وجده المغربية أهم سمات عبقرية الموقع الذي يميزها من بين مدن المغرب العربي قاطبة، والذي جعلها ملتقى للحضارت ومحطة للثقافات، ومهبطا للغزاة والمحتلين أيضا.
فهي تقع في أقصى شرق المملكة المغربية على بعد 60 كيلو مترا فقط عن البحر الأبيض المتوسط، ولا يفصلها عن الحدود الجزائرية سوى 14 كيلو مترا، وبذلك تعد مدينة حدودية بامتياز. وهو ما أعطاها أيضا مكانة إستراتيجية سواء في ناحية المغرب العربي، أو كونها نافدة على أوروبا، أو لأنها حلقة وصل بين المغرب الأوسط والمغرب الشرقي.
ونظرا لهذا الموقع المتميز لوجده فقد سميت بعاصمة المغرب الشرقي، كما أنها تسمى بالعاصمة الشرقية للمملكة المغربية، وارتبطت بجارتها الجزائرية مدينة تلمسان التي كانت تعد حاضرة المغرب الأوسط. كما أن وضعها كمدينة حدودية مع الجزائر عرّضها لمشاكل كثيرة في عهد الأتراك، وظلت تتأثر بموقعها الحدودي طيلة ألف عام وظهر هذا جليا بعد الاستعمار الفرنسي للجزائر، فقد كان على مدينة وجدة وساكنيها احتضان المقاومة الجزائرية ودعمهم بالمال والسلاح خاصة في عهد الأمير عبد القادر الجزائري.
ونظرا لموقع وجده فقد كانت القوات الفرنسية على قناعة بأنها هي الحلقة الأولى لاحتلال المغرب والسيطرة على الشمال الأفريقي والقضاء على القواعد الخلفية للمقاومة الجزائرية.
كما كان لموقع وجده القريب من الجزائر أيضا، تأثيرا في أن تشهد هذه المدينة المغربية مولد وطفولة عددا من السياسيين والقادة الجزائريين البارزين، ومن أهمهم الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة الذي أمضى فيها جزءا هاما من طفولته وحياته السياسية. كما اتخذها الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين كقاعدة خلفية لمساندة الثورة.
كما أهّل هذا الموقع الجغرافي المتميز وجده لأن تكون معبرا لجميع القوافل التجارية القادمة من الغرب والشرق والجنوب والشمال المغربي أيضا، فهي حلقة وصل التجارة في اتجاه فاس غربا، وتلمسان شرقا، وفكيك جنوبا، ومليلية شمالا. كما عرفت خلال الاحتلال الفرنسي حركة تجارية نشطة، وكانت تقوم بدور الوسيط التجاري بين المغرب الشرقي والغرب الجزائري.
وحينما تختلط بسكان هذه المدينة، تشعر إلى اي مدى انعكس موقعها المتميز على تركيبتهم العرقية؛ إذ أن أصول سكانها تمزج بين الأصول العربية والأفريقية والأوروبية أيضا، فهناك مصادر تتحدث عن قبائل عربية سكنت المدينة مع الهجرات العربية الأولى والثانية التي شهدتها بلاد المغرب منذ فجر التاريخ، كما أن موقع مدينة وجدة في متوسط الطرق التجارية جعلها تعرف عنصرا بشريا آخرا هو العنصر الأسود الذي ربما وفد مع تجارة السودان عبر سجلماسة فوجدة. وتذكر بعض المصادر أن أسرة ذات أصول شريفة أوجدت لنفسها أماكن خاصة بين سكان أحياء المدينة. كما أن وجود بعض العادات والأسماء التركية مثل عائلة (التريكي) قد تكون مؤشرا على استقرار بعض العائلات من الأتراك بالمدينة زمن دخولهم إلى وجدة. وذلك علاوة على وجود أصول أوروبية لبعض سكانها تأثرا بالاحتلال الفرنسي لها.
لوحة تاريخية:
كان لموقع وجده المتميز أثرا كبيرا على تشكيل تاريخها الذي تشكل كلوحة فنية تجمع ما بين الفاتحين العرب المسلمين والغزاة الأجانب وجحافل قواتهم العسكرية، الذين اتخذوا جميعهم من هذه المدينة مركزا مهما لإدارة الحكم والقتال والمعارك، وقاعدة انطلاق سواء نحو الغرب حيث المغرب الأقصى أو نحو الشرق حيث الجزائر وما بعدها وهو ما يعرف بالمغرب الأوسط.
فقد ارتبطت مدينة وجده منذ العصور القديمة بجارتها مدينة تلمسان الجزائرية التي كانت تعد حاضرة المغرب الأوسط، ويعود تأسيس مدينة وجدة على يد الزعيم المغراوي زيري بن عطيه الذي استطاع أن يؤسس مملكة في المغرب الأقصى، وكان في صراع مفتوح مع المنصور بن أبي عامر في الأندلس والفاطميين وأنصارهم من الصنهاجيين في المغرب الأوسط. في هذه الظروف السياسية الصعبة، فإن زيري بن عطية -وحسب أغلب الروايات التاريخية- فكر في ضرورة توسيع مملكته شرق عاصمته فاس وحماية ظهره من كل الأخطار المحدقة به من الناحية الشرقية، لهذا قرر بناء مدينة وجدة في شهر رجب سنة 384هـ/ 994 م، وقد قام بتحصين المدينة عبر إحاطتها بالأسوار العالية والأبواب التي كان يتحكم الحراس في فتحها وإغلاقها.
وفي حلقة أخرى من حلقات تاريخ وجده، فتحها يوسف بن تاشفين المرابطين في حملته في بلاد المغرب الأوسط سنة 1073م، كما شهدت المدينة حكما من قبل العثمانيين في الفترة من 1262 إلى 1692م.
ويأتي مقاومة الاحتلال كأبرز مشهد من مشاهد اللوحة التاريخية لوجده، فقد شهدت احتلالا فرنسيا ثلاث مرات، الأولى في 1844 والمرة الثانية في 1859م والمرة الأخيرة في 1907م؛ حيث بقيت قواتهم نهائيا بها حتى الاستقلال.
كما أن هناك حدث تاريخي هام عاشته وجدة خلال الحرب العالمية الثانية ، إذ نزلت بها قوات أمريكية هائلة (Fifth United States Army) تحت قيادة الجنرال المشهور جون باتون الذي حاول تقليد الماريشال رومل الألماني في قتاله. وكان الأمريكيون نزلوا بوجدة للتوجه إلى ليبيا لمحاربة فيلق الصحراء الشهير. ووجود قوات أمريكية بذاك الحجم آنذاك في مدينة كانت إلى حين هادئة أثر فيها وأصبح حديث الناس ونكتهم بل وتقليدهم.
يلحظ الزائر كلذك لمدينة وجده، ذلك الرافد اليهودي الذي يسم المدينة، بل ويوجد بقوة في الكثير من مدن المغرب التي توطن بها اليهود بقوةبعدما طردوا من الأندلس بعد احتلالها من جانب القوط المسيحيين؛ إذ تجد من أهم مزاراتها مزارا يعود إلى حاخام يهودي غير معروف اسمه، لكنه يحظى بمكانة هامة لدى يهود المدينة والمدن المغربية المجاورة لها ويقومون بزيارته بشكل منتظم على مدار السنة.
كما يروي سكان المدينة للزائر، ذلك الحدث التاريخي المهم الذي مر به يهود وجده عام 1948م، حيث قتل 48 يهوديا في وجده، بعد انحياز الجالية اليهودية على وجه العموم، والطبقة الوسطى منهم بصفة خاصة، إلى جانب المستعمرين في مقاومة الاستقلال، كما يرجع السبب في ذلك أيضا إلى قيام الحاكم العسكري الفرنسي للمنطقة آنذاك روني برونل بتحريض بعض المتحمسين ضد يهود وجدة، وذلك لأجل دفعهم للهجرة إلى إسرائيل بتآمر خفي ومنسق مع الوكالة الصهيونية العالمية.
سيمفونية حضارية:
تنتظم نغمات السيمفونية الحضارية لوجده في كونها تجمع بين خاصيتين بارزتين؛ فهي مدينة" قديمة" تتميز بعراقتها ويسهم في ذلك تواجد المدينة القديمة التي تضفي طابعا خاصا على مدينة وجدة... ثم هي مدينة "حديثة" باعتبار البناء الحديث لمدينة وجدة والذي يستمد طرزه من العمران الغربي دون أن ينسى الحفاظ على خصائص المدن المغربية المتميز.
وأول ما ينعكس على هذا التنوع والامتزاج الحضاري هو ذلك التنوع في البناء والتشييد، فعندعبروك لمدخل المدينة من ناحية المطار يقابلك حي القدس الذي يتخذ الطرز الحديثة، في حين أنك بمجرد أن تطأ قدماك البلدة القديمة التي تقع في قلب المدينة تجدها يضفي عليها طابعا متميزا من العراقة والعبق التاريخي، كما تأخذ أبوابها نمطا خاصة إذ نجد بعضها من الخشب وبعضها يزين بأقواس.
وفيما يتعلق بأهم وأبرز المعالم الحضارية بالمدينة التي تنتمي لعصور حضارية وتاريخية مختلفة بالمدينة فتنحصر في :
باب الغربي: باب أثري يطل على ساحة سميت 'ساحة سَرْت' باسم مدينة ليبية تمت توأمتها مع مدينة وجدة.
باب سيدي عبد الوهاب : باب أثري يطل على ساحة عبد الوهاب. ونظرا لموقعه ولأهمية الطرق المؤدية إليه والمنطلقة منه، فيمكن اعتباره مركز المدينة.
زاوية مولاي عبد القادر الجيلاني: التي يلجأ إليها الفقراء والمريدين كل ليلة الخميس يوم الجمعة.
زاوية المحمدية الفوزوية الكركرية: التي يلجأ إليها الفقراء والمريدين كل ليلة الجمعة وليلة الأحد.
زاوية سيدي أحمد التيجاني ساحة العدول: التي يلجأ إليها الفقراء والمريدين كل يوم وخاصة يوم الجمعة.
كنيسة سان لويس : توجد في شارع محمد الخامس( شارع مركزي بالمدينة)، وهي أول كنيسة أنشأها المستعمر الفرنسي.
ضريح سيدي يحي بن يونس: جرت العادة منذ مئات السنين على زيارة هذا الضريح من طرف المسلمين واليهود والنصارى، ليتبركوا به. وتفيد النصوص التاريخية أن هذا الولي المدفون هاجر من قشتاله الاسبانية إلى وجدة للاستقرار بها فتوفي ودفن بها، بينما تفيد مصادر أخرى أن به جثمان، أو أجزاء منه، القديس يوحنا المعمدان النبي يحي بن زكريا وما زال ضريحه مزارا لأعداد كبيرة من اليهود القادمين من كندا وفرنسا وإسبانيا وكندا وفلسطين المحتلفة.
المسجد الأعظم: وهو اقدم وأكبر مسجد في المدينة بني في عهد الدولة المغربية، وعند زيارته نلحظ لوحة تفيد بأنه خضع مؤخرا لعملية ترميم من قبل السلطات المختصة، في إطار المجهودات الحكومية لاعادة تأهيل المدينة والمعالم الآثارية والحضارية بها.
كما أن المدنية بها عددا من المواقع والمعالم التي تعد بمثابة مراكز اشعاع حضاري وعلمي وثقافي بحق، ومن أحدثها وابرزها: " منار المعرفة" التي دشنها الملك محمد السادس في شهر يونيو 2011، لتعد بمثابة قاطرة حضارية ومعرفية تضم مجموعة من مراكز الأبحاث والمعرفة المختلفة في الميادين النظرية والتطبيقة.
إضافة إلى معهد البعث الإسلامي للعلوم الشرعية الذي يهتم بداسة وحفظ القرآن، كذلك المجلس العلمي المحلي بوجده الذي تشرف عليه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالمدينة المعروفة بكثرة مساجدها.
أ ص ب
أ ش أ
" وجده المغربية" لوحة تاريخية تجسد نغمات سيمفونية حضارية
المغرب/وجده/تقارير و تحقيقات
You have unlimited quota for this service