القاهرة في 12 أبريل/أ ش أ/ كتب / محمد المعبدي
في الوقت الذي تسعى فيه أوروبا لتسويق منتجاتها في الشرق العربي وفرض الذوق الفني لتلك المنتجات، كانت المصانع الأوروبية التي تلبي احتياجات الأرستقراطية الصاعدة تجند كل طاقاتها لمحاكاة التحف التطبيقية الإسلامية وخاصة في منتجات الخزف والزجاج والمعادن.
ويعود المسعى الأوروبي لمحاكاة وتقليد الفنون الإسلامية لقرون سابقة وبالتحديد للقرن الـ 15 الميلادي عندما شرعت مدينة البندقية الإيطالية التجارية في محاكاة بعض المشكاوات الزجاجية التي اشتهرت مصر والشام بإنتاجها في العصر المملوكي وكذلك المنتجات المعدنية ونجحت في أن تغزو بها أسواق الشرق لزهد أسعارها قبل أن يكتشف الناس زيفها.
ولكن المحاولات الأوربية لتقليد الخزف والزجاج والمعادن الإسلامية اضطلعت بها مصانع خاصة تركزت غالبا في المدن الفرنسية مثل نيفار وبوردو وباريس مع مصانع أقل شهرة في إيطاليا والنمسا ووضعت نصب عينيها إنتاج تحف لقصور النخب الأوربية الصاعدة والتي كانت تدفع آنذاك مبالغ ضخمة لتجار العاديات الشرقية نظير شراء التحف الإسلامية.
وأصبحت تلك التحف الأوروبية سوقا رائجة في صالات المزادات العالمية وقد يباع بعضها بأثمان تفوق التحف الإسلامية الأصلية إذا ما حملت توقيع الفنان أو المصمم الذي قام بتصميمها لتلك المصانع.
وقال الدكتور أحمد السيد الصاوي أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، لوكالة أنباء الشرق الأوسط، اليوم، إنه من أشهر المصانع الأوربية التي بدأت مبكرا في تقليد الخزف الإسلامي تلك الورشة التي انشأها ثيودور ديك في عام 1856 م وهو في الأصل بحار منحته جولاته في البحار الشرقية خبرة تجارية بالعاديات الشرقية فاستقر بباريس وأنشأ بها ورشته للخزف وتعاون مع كبار الخزافين الفرنسيين آنذاك من أمثال رفاييل كولين وظل المصنع يعمل بنشاط في تقليد خزف مدينة إزنيك التركية بوجه خاص حتى بعد وفاة جوزيف ثيودور ديك في عام 1891 م.
وأضاف الصاوي أنه عرضت مؤخرا بعض أعمال ثيودور ديك للبيع منها مزهرية من الخزف على هيئة المشكاة وهي تزدان برسوم الزهور والورود التي ذاعت في منتجات خزف مدينة إزنيك التركية تحت تأثير زخارف عصر السلطان أحمد الثالث والمعروف في الفنون العثمانية بعصر اللالا أو زهرة الزنبق.
وأشار إلى أن أعمال ورشة ثيودور امتدت لتشمل أعمالا فنية تحاكي الفنون المملوكية ومن أمثلة ذلك مشكاة من الخزف تحاكي المشكاوات الزجاجية للمماليك في القرنين الثامن والتاسع للهجرة ويبدو أنه نقل رسومها عن مشكاة أصلية حتى أنه رسم عليها رنك الأمير المملوكي الذي كان يشغل وظيفة صاحب البريد ورنكه هو صورة البغل كما هو معروف. وهناك أيضا حوض زهور من الخزف صنعه تقليدا لأواني النحاس المملوكية وخاصة تلك التي أنتجت في عهد السلطان الأشرف قايتباي ومن إبداعات هذا المصنع مصباح كيروسين صنع على النمط المملوكي ببراعة تستلفت الأنظار.
ولفت إلى أنه في نفس تلك الفترة نشط مصنع آخر في باريس لإنتاج الزجاج على النمط المملوكي وهو مصنع فيليب جوزيف بوركارد الذي توفي عام 1896 م، ومن أجمل منتجات هذا المصنع الباريسي مشكاة من الخزف المموه بالمينا على غرار المشكاوات المملوكية وهي تزدان بحروف من خط الثلث المملوكي وبألوان المينا الزرقاء والبيضاء والحمراء التي نفذت ببراعة ودقة كاملة على الزجاج الأخضر وقد تجاوز سعرها 45 ألف جنيه إسترليني.
وقال الدكتور أحمد السيد الصاوي إنه من المصانع التي نشأت في نانت الفرنسية مصنع جاليه في النصف الثاني من القرن 19 م وجاء انخراط الابن إيميل في عمل هذا المصنع ليضيف لمنتجاته الفخمة روحا إسلامية ظاهرة وإن كانت بروح حديثة ومن أبرز المحاولات الفنية القائمة لليوم سعي هذا المصنع لإنتاج وحدات إضاءة فخمة من الزجاج وهي تلقى رواجا بين المشترين من الأوربيين والعرب على حد سواء بفضل زخارفها ذات الطابع الإسلامي وتصميماتها الوظيفية الملائمة لاستخدام المصابيح الكهربية مثلما نرى في مصباح زجاجي مزود بأطراف معدنية لضمان تعليق المصباح في الأسقف بواسطة سلاسل حديثة.
وأوضح أن مدينة بوردو الفرنسية عرفت أيضا نشاطا كبيرا في مجال تقليد منتجات الخزف الإسلامي حيث إزدهرت بها عدة مصانع للخزف بدءا من النص الثاني من القرن 18 م.. قائلا "يعتبر مصنع جوليس فيلارد من أهم المصانع التي عملت في مجال تقليد الخزف ولدينا من إنتاجه مزهرية من الخزف المقلد لخزف مدينة إزنيك العثماني ، ولكن بمزيج من زخارف يندر أن يجتمع في آنية واحدة أصلية حيث استخدم زخرفة قشور السمك كأرضية لمناطق زخرفية متبادلة بإحداها رسوم نباتية وبالأخرى كتابة نسخية".
وذكر أنه من المصانع الفرنسية التي نشطت في محاكاة أواني إزنيك من الخزف التركي مصنع سامسون في أواخر القرن التاسع عشر وبأسواق العاديات عدة مزهريات متماثلة كأزواج تستخدم للزينة وفقا لقواعد التماثل التي اشتهرت بها الفنون الإسلامية وهي تباع في المزادات كأزواج مقترنة وتحمل هذه الأواني نفس الزخارف النباتية التي اشتهرت بها أواني إزنيك المعروفة تجاريا باسم رودس وهي عبارة عن أوراق وزهور باللونين الأزرق والأحمر الطماطمي مع لمسات من اللون الأخضر على أرضية بيضاء قصديرية وإن جاءت أقل جمالا من القطع الأصلية التي كانت ألوانها الحمراء تضاف فوق بدن الإناء لتبدو بعجينتها الطينية بارزة صقيلة.
وقال الدكتور أحمد السيد الصاوي"من مدينة نيفار بوسط فرنسا نجد أيضا بعض منتجات من الخزف المقلد لخزف إزنيك المعروف تجاريا بخزف رودس ومنها بوجه خاص أحواض الزهور التي تستجيب لاحتياجات المنازل الكبيرة والحقيقة أن تقليد الخزف التركي اجتذب العديد من مصانع الخزف الصغيرة بأوروبا وكذلك الورش الخاصة لبعض الفنانين ولم يتوقف إنتاجها عند الأنماط المعتادة من المزهريات أو دوارق الخزف ذات الأغطية بل نرى أيضا بعضا من البلاطات الخزفية التي حاكت بدقة كاملة لوحات الخزف التركي ومن أجملها بلاطات على نمط بلاطات إزنيك رسمها أدلبرت بوامنت لمصنع إيوجين كلونوت بفرنسا حوالي عام 1860 م".
وتابع، "لدينا بعض من المنتجات المعدنية التي قلدت الأنماط التركية العثمانية وخاصة في أطقم الشاي والقهوة بما في ذلك الصواني والأباريق والفناجين التي زخرفت بزخارف نباتية وكتابية نفذت بالطلاء بالذهب والفضة وكان للنمسا أيضا نصيب وافر من الجهود الصناعية لتقليد التحف الإسلامية حيث تعرض لليوم كئوس شراب من الزجاج المموه بالمينا على النمط المملوكي من إنتاج مصنع لوبمير بفيينا وهي ذات كتابات نسخية رائعة".
م س د/م ش ا
أ ش أ